سجننا الحبيب

سجننا الحبيب..

نشر فى : الجمعة 20 يونيو 2014 - 5:50 ص | آخر تحديث : الجمعة 20 يونيو 2014 - 5:50 ص
ربما يكون المشهد العجائبى الذى ترافق مع إعادة استيلاء قوات النظام على سجن حلب المركزى هو من أبلغ المشاهد أو القراءات لوضع الحال السورى.. فالمشهد التليفزيونى الذى اتفق مع دخول المراسل العسكرى للتليفزيون إلى السجن برفقة الجنود.. مدهش..
فالمبنى المحرر هو السجن المركزى لمدينة حلب حيث يقبع آلاف السجناء الجنائيين والمجرمين برفقة السياسيين من إرهابيى الثورة أو مسلحى المعارضة.
لكن المفاجئ أن الحامية التى احتفلت أمام عدسات الكاميرا كانت ترقص فى مقدمة خلفية من السجناء الممسكين بقضبان الزنزانات، الذين كانوا يصرخون بدورهم الصراخ الأثير لقلوب النظام (بالروح بالدم).
هذا المشهد السوريالى بالنسبة للمساجين حتما، وليس بالنسبة للحامية العسكرية، يلخص بجزالة حال الوضع السورى، فالمسجون مسجون، أيا كان سجانه موالاة أو معارضة، وأن يهتف المسجون لسجانه بطول العمر والانتصار والحكمة والخيار الصائب فهو ضرب من ضروب العبث.. خصوصا أن نظرة فاحصة للسجناء الهاتفين خلف القضبان تدع المشاهد يدرك أن هنالك أطفالا ونساء ورجالا يقفون سويا خلف هذه القضبان فى سجن مركزى لأكبر مدينة فى سوريا المعاصرة الحديثة.. حيث يسجن الأطفال برفقة أمهاتهم ويتهمون بالإرهاب كذلك.. لا وبل يجبرون على الرقص والغناء والهتاف لسجانهم الذى خلصهم من الإرهابيين والمسلحين وأنعم عليهم بإبقائهم فى السجن خلف القضبان، دون أن يسمح لأولئك الإرهابيين فى الخارج بقتلهم والتنكيل بجثثهم لا بل وقطع رءوسهم ووضعها على الرماح.
•••
ألا يكفى السجين أن ينعم بالحياة والطعام والشراب خلف قضبان ذلك السجن الوارف حتى يكون ممنونا لسجانه، ألا يكفى السجين أن يشعر بالأمان فى برود زنزانته دون أن يقتحم الإرهاب بيته الجديد الصغير إلى حد المنفردة، ألا يكفى السجين أن لا تنفجر سيارة مفخخة به وهو يعبر فى أروقة السجن فتتناثر أشلاؤه مع أطفاله فى أرجاء المكان، أو أن يكون محميا من تساقط قذائف الهاون عليه فى باحة السجن الرحبة المليئة بالأشجار والياسمين، والمحاطة بسور عال من الإسمنت يحميه من قذارة العالم الخارجى ووحشية ما يحدث خارج تلك الأسوار حيث يقوم العسكر بالوقوف ساعات وساعات تحت البرد والمطر والثلج والحر لحمايته من الغرباء ومن الارهاب، من المتطرفين ومن البرابرة القادمين.
•••
ألا يكفى السجين أن الوحدة الوطنية التى ينعم بها فى داخل ذلك السجن برفق أخيه المسيحى المندس، أو المسلم من الطوائف الأخرى تجعلهم يعيشون فى تعايش أذهل العالم، يمارسون شعائرهم الدينية بحرية ودون أى قهر أو منع.. ألا يكفى أن الأمهات لم تحرم من أولادها فجلبوا ليعيشوا سويا فى أمان، ألا يكفى أن لم الشمل الاجتماعى قد حصل وأن العائلات لا تتمزق كما حصل فى المخيمات الكريهة.
ألا يكفى أنه ليس هنالك اغتصاب للرجال والنساء، فالجميع هنا إخوة بالمعنى الحرفى للكلمة.
ألا يكفى السجين تلك المكتبة الصغيرة فى السجن حيث الكتب منتقاة بعناية من قبل أخصائيين وخبراء كى لا يتلوث عقل الإخوة السجناء من فسلفات المفكرين الملحدين والكفرة والإسلاميين على حد سواء، هنا فى هذا البيت المتين، لا مكان للتفكير المخرب، لا مكان لخلخلة ثبات الروتين فكل شىء يجب أن يتم وفق ما رسم له.
•••
ألا يكفى السجين تلك السعادة الغامرة وهو يشاهد يوميا الإعلام السورى الذى يحدثه عن البناء والإعمار والنصر القريب والديمقراطية الوليدة التى حصلنا عليها بفضل إصلاحات صحيحة وسليمة للجسد العام.. حتى يشعر بأن أطفاله المقيمين فى حضنه سوف ينعمون بعالم أفضل وأكثر أمنا فى بلدهم وبين أهلهم.
ألا يكفى السجين أنه ورغم الحصار الطويل على السجن فإن الحصص الغذائية التى قدمت له لم تنقص وأن الكهرباء التى تقطع عنه فى السابعة من كل يوم فى خدمته الطويلة المؤبدة فى هذا السجن لن تنقص ولن يتغير موعد قطع الكهرباء أبدا، فالاستيقاظ لن يتغير والهجوع إلى المهاجع سيكون هو نفسه فى ذات الوقت والاستمتاع بالسرير إن وجد أفضل من التشرد واللجوء لدى الدول المعادية لنا، والمنفردة فى الوطن أفضل من خيمة كبيرة خارجه.
•••
لذا لا تستغربوا إن خرج السجناء والدمع يملأ أعينهم وأحداقهم وأصواتهم تتهدج وهم يهتفون لسجانيهم، شركائهم فى الوطن الذين سيبنون سويا ما تهدم من هذا السجن العظيم، سيعيدون سويا إعمار هذا الصرح المهم والمرفق الحيوى الخطير الذى هدمته قذائف وحوش الأرض القادمين من المجهول، يدا بيد سيرفع السجين الطوب والحجارة والإسمنت على ظهره بينما أخيه السجان يقف لحمايته فى الحر والبرد رافعا بندقية الوطن الغالية ودبابة الوطن الثمينة وطيران الوطن العالى، سيسخر لتأمينه وهو يبنى سجنه من جديد الذى سيضمهما سويا من جديد.. ومجددا سيرفعون الأسوار عاليا حتى لا يتجرأ طير أو غيمة أو ريح على أن تعكر صفو السلم الأهلى والتعايش الهادئ فى الداخل.
•••
ذلك السجن الذى ضمنا لسنين طويلة يريدون هدمه أولئك المخربون، يريدون تشريدنا فى البرارى والقفار، لكن المراسل الحربى للتلفزيون طمأن الشعب فى باقى بقاع السجون بأن السجن المركزى لمدينة حلب تمت السيطرة عليه من جديد وبأنهم استطاعوا تحرير السجن من مهاجميه الغرباء وبأن الأزمة السورية هى شأن سورى سورى، لا ولن يتدخل فيها أى أحد غريب.. وبأن الأمور ستعود على ما كانت عليه قريبا جدا وسيرى المساجين أنفسهم فى سابقة لم تحدث فى بلدنا، سيرون أنفسهم يرقصون فى ردهات وساحات السجن يدا بيد والأعلام والرايات المنتشرة فوق رءوسهم تقف ثابتة دون حركة حيث إنه لا رياح تحرك الرايات.. فى سجنهم العزيز.
آه كم نحبك أيا سجننا الحبيب.
فارس الذهبي
فارس الذهبي كاتب روائي ومسرحي سوري
التعليقات

تعليقات