أنا وغالب هلسا: صديقي الضاحك

أنا وغالب هلسا: صديقي الضاحك

تم نشره في الثلاثاء 23 كانون الأول / ديسمبر 2014. 01:00 صباحاً
  • بورتريه للراحل غالب هلسة بريشة الزميل إحسان حلمي
  • بورتريه للراحل غالب هلسة بريشة الزميل إحسان حلمي
  • بورتريه للراحل غالب هلسة بريشة الزميل إحسان حلمي
1
فارس الذهبي
لم يكن القدر كريما معي فقط حينما وضعني في درب أناس عظماء كان لي الشرف في معرفتهم فقط بل كان لي الحظ أيضاً أن أتعرف إليهم عن قرب وفي مجالسهم الخاصة وأنا طفل صغير ..وكان أحد هؤلاء الكتاب الكبار هو الروائي العربي غالب هلسا ..
كنت طفلاً صغيراً وكان والدي أحد الأصدقاء المقربين لغالب هلسا، بل لقد كان غالب هلسا أثناء فترة اقامته الدمشقية ربما الصديق المياوم لوالدي، وكنت أنا الحاضر الدائم في أغلب جلساتهم.
ارتحل غالب هلسا الأردني الأصل المنحدر من مدينة الكرك جنوب الأردن، ويقال إن أجداده كانوا قد أتوا من مادبا جنوب عمان الى الكرك، ارتحل الرجل من عمان الى بيروت في بداية شبابه ومنها عايش النهضة المبكرة للحداثة العربية الفنية وتنقل منها الى بغداد وعاد الى بيروت ومنها خرج الى عدن مع خروج الفدائيين القسري، وهناك في اليمن السعيد خاض تجارب دفعته الى الاستقرار في القاهرة طويلا ليعيش في تلك المدينة الجميلة ردحا ًمديداً من الزمن، لتؤثر فيما بعد على ألية تفكيره وتسكن خيالات وتخييلات أفكاره حتى، لتستقر في لهجته التي لم تخرج منها حتى مماته.
ومن القاهرة أتى غالب هلسا الى دمشق ليستقر فيها، كان يعمل مع احدى الفصائل الفلسطينية التي منحته مكتباً ليتفرغ فيه للأدب. وهناك كان يلتقيه والدي ليتحدثا طويلا. وهناك كنت أجلس على كنبة صغيرة أحتسي الشاي وأستمع الى أنساق طويلة من الحوارات والنقاشات السياسية والفنية والأدبية بدون أي رد فعل، وحتى نوبات الغضب الضاحك من الرجلين كانت لا تضحكني.
كنت مستغرقاً تماماً في حبهما المشترك لهاتين المدينتين؛ دمشق والقاهرة، ومتعجباً أكثر من لهجته غير المفهومة في مزيج من الأردنية والمصرية والفلسطينية، وحينما يخرجان ليتمشيا في الشوارع رجوعاً الى البيت، كان غالب يمسك بيدي بحنو كبير أثناء قطعنا للشوارع الكبيرة. كانا يتبادلان الاهتمام بالطفل المرافق بدون أي احساس بالملل من طرفهما على حد سواء. بل كان الملل هو ما يصيبني أنا لعدم فهمي لحديثهما، حتى يكسر غالب هلسا هذه الاحساس بتوجيهه دعابة مرحة الي كانت تضحكني وتقربني منه، فيتحدث عن أنه سمع أني أحب الطعام، وأنه يحب الأكل أكثر مني بكثير. ويتحداني بهذا.
وبالفعل كان التنافس بيني وبينه في من هو الأسرع في انهاء طبقه. كان يعشق الطعام الدمشقي والمطبخ السوري عموماً، وكان وجهه يتحول الى اللون الوردي من شدة انهماكه في التمتع بالطعام ودفعي الى مشاركتهما في الأكلات الغريبة (بالنسبة لي حينها)، مثل اللسانات والفتات وغيرها. كنت كسائر الأطفال لا أستسيغ تلك الوجبات، ولكن حالته وحبه للحياة ولما يفعل كانا يجعلاني أقبل على التقاط اللقمة من يده وتناولها، ما يسعد والدي دوماً، على ايقاع ضحكة غالب هلسا المجلجلة والمميزة والتي تجلجل المكان وتجعل الجميع يلتفت اليه.
لم أستغرب مطلقاً أن أرى في مكتبة البيت كتاباً لغالب هلسا يدعى الضحك، بل اعتبرت هذا الموضوع فعلاً روتينيناً، فمن أقدر من غالب هلسا على الحديث عن الضحك.
هكذا جرتني صورة غالب وهو يضحك الى امساك الكتاب والبدء باكتشاف عوالم غالب هلسا المثيرة، عوالمه المميزة والساحرة بالنسبة ليافع. عوالم شدنتي اليها تعابير ومصطلحات جنسوية مثيرة كانت صادمة بالنسبة الي، ولكنها لم تكن سوى طرف خيط ما ان سحبته حتى ظهرت أمامي عوالم ومدن وشخوص تضحك وشخوص كئيبة. وهكذا نهضت أمامي بغداد وعمان ووسط البلد والقاهرة القديمة والجديدة ودمشق. كانت روايات غالب هلسا تقبع الى جانب بعضها البعض في المكتبة الدمشقية الضخمة. وكنت أستلها واحداً تلو الأخر؛ وديع والقديسة ميلادة وآخرون كانوا أصدقائي، سلطانة كانت حبيبتي الأولى المتخيلة، ورويداً رويداً امتلأت مخيلتي طوال سنتين بزنوج وبدو وفلاحين وبرياح الخماسين، وما انتهت الا برواية "الروائيون" التي أصابتني بإحباط لا يتماشى مع ذاكرتي عن غالب هلسا الحياتية.
حينما بدأت دراستي الأكاديمية، طلب منا البحث في معنى المكان المسرحي، وأثناء البحث كان كتاب غاستون باشلار "جماليات المكان" هو المرجع المثالي لي في البحث، وأضاف إلي ما أضافه من شدة كثافته وعمقه. بالطبع كنت سعيداً جدا حينما قرأت اسم صديقي غالب هلسا على غلافه مترجماً، وأحسست أن الكتاب يجب أن يقرأه الجميع، جميع رفاق الجامعة، فصديقي الضاحك هو من ترجم هذه الدرة التحليلية النقدية. وبالفعل أصبح الجميع يتحدث عن باشلار بينما كنت أنا مفتوناً بهلسا.
ودارت الأيام وقرأت حزناً في وجه والدي يوم وفاة غالب هلسا لم أعهده مسبقاً. كانت حالة اكتشاف مرعبة بالنسبة لي، حالة الحزن على وفاة الصديق، الصديق الذي لا يستحق الموت، الصديق المفعم بالحياة والضحك. حزن انتقل من وجه والدي الى وجهي لاحساسي بأني انا الذي خسرت صديقاً كنت أجهل أنه صديق لي قبل أن يكون صديقاً لوالدي.

تعليقات