أصغر فرهادي مخرج إيراني يحصد الأوسكار مظهرا اهتراء قيم 'الثورة'

أصغر فرهادي مخرج إيراني يحصد الأوسكار مظهرا اهتراء قيم 'الثورة'

المخرج أصغر فرهادي يؤمن بأن السينما في بلدان مثل الشرق الأوسط وإيران بالذات ليست ذلك الفن المنطلق نحو الخيال المجنح وإنما هي صرخة فرح وألم.

العرب فارس الذهبي [نُشر في 2017/03/25، العدد: 10582، ص(13)]

أصغر فرهادي البائع المتجول والمعارضة الصامتة

عمان- لم ينفك المخرج الإيراني أصغر فرهادي عن تمرير نقده اللاذع لبنية المجتمع الإيراني عبر سلسلة من الأفلام المتتالية التي بدأها في سنة 2002 ككاتب سيناريو لفيلم “ارتفاع البريد” والذي ما لبث أن أعقبه بعدة أفلام كمخرج سينمائي كان أهمها “ألعاب نارية في يوم الأربعاء” و”عن إيلي” و”الماضي” وصولاً إلى الفيلم الذي طوّبه ولفت أنظار عتاة نقاد السينما في أوروبا إليه “طلاق نادر من سيمين”.
على أن فرهادي ليس فقط صانع أفلام مستقلة من إيران وإنما تتضمن أفلامه نقداً أعمق وأشد قوة مما يبدو على سطح صورته من دراما آسرة تهز المشاهد.
فقد اكتشف فرهادي (من مواليد 1972) بأن السينما في بلدان مثل الشرق الأوسط وإيران بالذات ليست ذلك الفن المنطلق نحو الخيال المجنح وإنما هي صرخة فرح وألم في ذات الوقت لمجتمعات تئنّ من فرط الاضطرابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. حيث لا تزال تلك البلدان، ولاسيما إيران، تتخبط بحثاً عن هوية أخيرة ونهائية ترتديها لتكمل مسيرتها نحو المستقبل.
وعليه فقد أدرك فرهادي بأنه لا يمكنه صناعة سينما معقمة كالتي يريدها الرقباء في دائرة المصنفات الفنية في طهران دون أن يعمد إلى الإشارات الجادة والأساسية لنقد ذلك المجتمع الإيراني المنغلق والذي بدأ يأكل نفسه من شدة دورانه حول ذاته.
قبل فرهادي شروط دائرة الرقابة لصناعة أفلامه كمن يقبل أن يؤلف بيتاً شعرياً ولكن من عدد محدود من الكلمات يختارها الناشر. فتجد في جميع أفلامه نفس الشروط التي فرضتها الثورة (الإسلامية) على السينما من ضرورة ستر شعر جميع الممثلات بالحجاب وعدم حدوث اختلاط مناف للآداب وعدم المصافحة، إلى تجنب انتقاد المحرمات الثلاثة المعروفة.
دراما الألم والحب
صناعة سينما معقمة كالتي يريدها الرقباء في دائرة المصنفات الفنية في طهران أمر يدرك فرهادي بأنه غير ممكن دون أن يعمد إلى الإشارات الجادة والأساسية لنقد ذلك المجتمع الإيراني المنغلق والذي بدأ يأكل نفسه من شدة دورانه حول ذاته
فرهادي استطاع وضمن هذه الشروط التي اعتبر أن اختراقها نفي للجمهور الإيراني المحلي لأفلامه استطاع بناء عمارة ضخمة من الدراما والألم والحب والحزن تجتاح المشاهد حين مشاهدة أفلامه، هي دراما بطيئة ومتقنة وحساسة تشبه في صنعتها وتأنّيها صنعة حياكة الفرس للسجاد الأعجمي الفاخر.
في فيلمه الأخير “البائع” يتحفنا فرهادي بنسخة رائعة من قصصه الدرامية التي تتناول المجتمع الإيراني، حيث يعمد إلى تشريح هذا المجتمع وتشخيص مشاكله عبر حبكة ذكية ومتقنة تنعكس فيها المقولة عبر المسرحية الداخلية التي يقوم البطلان-الزوجان بتأدية أدوار البطولة فيها. أما عنوان هذه المسرحية فهو “موت بائع جوال” لآرثر ميلر رائد الواقعية الأميركية الذي توفي في العام 2005، حيث لا يمكن لأيّ ناقد يريد أن يحيط بجوانب فيلم “البائع” إلا قراءة المنعكس النقدي للمسرحية الداخلية التي تقدم في الفيلم والذي يبدو أن المخرج استوحى اسمه من المسرحية بجلاء.
جيل يحاكم جيلا
تعد مسرحية “موت بائع جوال” من أشهر النصوص الأميركية المعاصرة التي تتناول موضوعة الحلم الأميركي، حيث يتجاوز ميلر في هذا النص المبكر له فكرة الواقعية الأميركية قفزاً إلى الرمزية الحادة، فصراع الطبقات الشهير في هذا النص أصبح من الشهرة بمكان، ويبدو أن تسمية أيّ شخص في الغرب بالبائع الجوال تعني أنه شخص شكلاني ويحاول تسويق نفسه وأفكاره بالاعتماد على الشكل فقط وليس على أخلاقية القيم والمبادئ.
وهنا يوجّه ميلر نقداً حاداً لفكرة الحلم الأميركي وكيفية فهم الأجيال الجديدة لها وكيفية تطبيقها حتى ينتهي الحال بالبطل لومان، الذي يقوم بأداء دوره في المسرحية الداخلية في فيلم فرهادي بطل الفيلم نفسه، بالانتحار كي يؤمّن لعائلته قدراً من المال كتعويض عن حياته.
ففي المسرحية نجد صراعاً مريعاً للأجيال وللطبقات حول آلية وكيفية خوض الحياة، فالأب “لومان” الذي يمثل الجيل القديم يتواجه مع الأبناء في مشاهد عديدة تنتهي بسقوط الأب لسبب واحد وبسيط هو الادعاء وعدم الصدقية.

جميع أفلام فرهادي تضم نفس الشروط التي فرضتها الثورة الإيرانية (الإسلامية) على السينما

وتلك بالتحديد كانت قوة فرهادي الناعمة في توجيه انتقاداته المرعبة من هذه الزاوية لكتلة المجتمع الإيراني الصماء التي تروّج لنفسها عبر أخلاقيات وقيم وأفعال أصبحت بعد ما يقرب من أربعين عاماً على قيام الثورة الإيرانية راعية تلك القيم وأضحت مهترئة وبالية ولم يبق منها إلا الفعل اللفظي، فيوجه فرهادي هذه الانتقادات في غير مشهد.
فمثلاً في أحد أهم المشاهد حينما يصعد الزوج وصاحب البيت في الفيلم إلى سطح البيت الجديد الذي يود استئجاره ينظر الاثنان إلى المدينة التي يفترض أن تكون هي طهران، ويقول “يا الهي انظر ماذا فعلوا بالمدينة، أعتقد أنه ينبغي علينا أن نهدمها ونعيد بناءها من جديد”. وفي هذه الجملة انتقاد واضح وصريح لبنية المجتمع الإيراني، إذا ما نظرت إليه من مسافة فاصلة وجملة لا تحتمل اللبس في المعنى الذي أراده المخرج.
وفي مشهدين آخرين تتواجه فيهما الأجيال لدرجة التصادم والتعرية يقف البطل، الذي يعمل كمدرس “مودرن” وممثل مسرح في الليل، أمام تلامذته الذين عاجلوا إلى تصويره وهو نائم من شدة التعب بعد الحادثة التي تعرضت لها زوجته حينما اغتصبها رجل مجهول في أول يوم من أيام سكنهما في الشقة الجديدة التي كانت تسكنها امرأة ذات سمعة سيئة، وكان المخرج حريصاً على عدم تسميتها باسم آخر، يقف المدرس “بطل الفيلم” ويبدأ بتفتيش هاتف التلميذ النقال الذي صوره ويبدأ بتوبيخه على ما يحتويه من صور إباحية لا تتلاءم مع كونه طالباً ويطلب منه أن يخبر والده بما شاهده على الهاتف.
وفي المشهد الأهم يتواجه المعتدي، الذي من المفترض أن يكون قد اغتصب زوجته وهو رجل عجوز في الستين من عمره، مع البطل في المبنى الذي تركوه في أول الفيلم بسبب كونه يتداعى بعد تحذيرات من أنه قابل للسقوط، يتواجهان ليس حول معاقبة المغتصب على ما اقترفه وإنما على أن البطل يريد فضح الرجل العجوز أمام أسرته وإخبارها بأن الوالد ما هو إلا من رواد بيوت الدعارة رغم الهيئة الوقورة التي يبدو عليها.
أزمة الأخلاق
نجد أنفسنا أمام مرافعة الجيل الشاب أمام الجيل الذي صنع الثورة في بناء آيل للسقوط بدلالته الكبيرة ضمن جدران مشققة وأسقف تتداعى ما هي برمزيتها إلا النظام الذي يحكم البلد منذ أربعين عاماً تقريباً. والمضحك في المشهد أن الصراع لا يكمن إلا في رغبة الجيل القديم في عدم فضحه من قبل الجيل الجديد أمام الزوجة والابنة، بينما تصبح زوجة البطل المغتصبة من وجهة نظر المخرج ما هي إلا البلد الذي اغتصب في غفلة من العقل والمنطق.

أصغر فرهادي استطاع بناء عمارة ضخمة من الدراما والألم والحب

وبين تداعيات الموقف والبطل المتمسك بقيمه الخاصة وإنسانيته المحضة يقوم باستدعاء الرجل العجوز إلى غرفة جانبية وإعطائه أغراضه ومن ثم صفعه على وجهه صفعة من الأبناء إلى الآباء على ما اقترفوه وعلى ما سكتوا عنه، وهو المشهد ذاته الذي نجده في مسرحية “موت بائع جوال” التي يؤديها البطل ذاته في الفيلم، مما يؤكد على صوابية الصفعة وتكرارها مرتين من قبل البطل الذي يعلم بالتحديد ماذا يفعل، حيث يبدو الفعل منتهكاً لكافة أصول احترام الأكبر سناً.
لكنّ الصفعة ههنا تأتي كتسوية أخلاقية من جيل إلى جيل، صفعة لم يشاهدها الآخرون الذين يقدسون الأب، من الأم إلى الابنة و الصهر، ويعتبرون أنه رجل صالح ومكافح. ولكن الجيلين يدركان أنها حدثت، بينما العجوز يتهالك وهو يغادر المبنى المتداعي أصلاً، وينتهي الفيلم دون أن نعرف من سيسقط الرجل العجوز أم العمارة التي تجري بها الأحداث أولاً، بينما يفترق الزوجان الشابان في الشارع من شدة قوة الأزمة والصدمة.
في “البائع” يعتمد المخرج فرهادي على حبكة مسرحية ميلر بقوّة ليصنع تقاطعات مدهشة بين المجتمع الأميركي والمجتمع الإيراني. حيث يبدو الإنسان واحداً بهمومه وآلامه، وتبدو أزمة الأخلاق هي المحرك الأساسي لبناء وتقدم الأمة وليس المال أو التكنولوجيا أو القوة. يصنع فرهادي أقسى خطاباته الموجهة للمجتمع الذي صنعه النظام الإيراني ويدعو بقوة إلى إعادة بناء المجتمع من جديد بعد كشف كل المستور والمخفي.
ولكنه في الوقت ذاته يدرك أن مصارحة كهذه تبدو جارحة إلى درجة قد تكسر قلوباً رقيقة لم تعتد على الحرية دفعة واحدة. وإنما يجب على البائع أن يُقدم على موته بنفسه حتى تنطلق الأسرة من جديد من حوله ويتحول دمه إلى وقود للنهضة الجديدة متوافقاً مع ميلر في نهايتهما السعيدة.

تعليقات